مانشيت

ديمقراطية ليبية بلا ديمقراطية

نورالدين خليفة النمر

ديمقراطية الواجهة، هي العملية السياسية، الحريصة على تنظيم وتكرار انتخابات ، ديمقراطية سطحية لا تنفذ إلى عمق المجتمع ولا تؤثر فيه على النحو المرغوب، فتُحصر عملية التحوّل السياسي في تسيير انتخابات شكلية يلبي متطلّباتها، وآلياتها مهندسو ديمقراطية الواجهة بديلاً عن الديمقراطية الحقيقية، التي تقوم عناصرها على: تهيئة الأحزاب وإنبنائها مجتمعياً في مضامين تعكس مصالح طبقات المجتمع أوفئاته، وتكريس حكم القانون وتثبيت آلية واضحة لضمان الشفافية السياسية، ودعم حرية الصحافة والإعلام، وتعزيز المجتمع المدني الواعي بحدود حقوقه المدافع عنها.

يتّم القفز على ذلك وينصبّ اهتمام القوى الخارجية الفاعلة في إدارة النزاع المحلّي، والمتخفيّة مصالحها وراء المؤسسات الدولية،على تنظيم انتخابات يسهل تزويرها، أو كما حدث في التجربة الليبية، يُتغاضى عن تزييف مضمونها ـ كالسماح للأحزاب بالمشاركة في الانتخابات، قبل صدور قانون ينظمّها، بل تطفح كمكوّنات بدون أهداف سياسية واضحة، أو بأهداف آيديولوجية غير وطنية مرسومة من أحزابها الأمّ خارج الحدود، ولاتقيّدها في عمومها برامج، وتنشأ بالصدفة مفصّلة على شخص مؤسسها ملبية رغائبه عاكسة مزاجه، أو تقديم الناخب نفسه كمستقل، ثم إعلانه بعد فوزه انتماءه المُسبق لأحد الأحزاب المشاركةـ بل التغاضي عن كل هذه الخروقات وغيرها بهدف إقناع النفس بوجود ديمقراطية لا تتجاوز في الحقيقة الواجهة الأمامية التي تسعى إلى تلميع صورة وضعية، الأمر الواقع القائمة وهي سيطرة المجموعات المسلّحة المتنافرة على مقاليد الأمور.

يتوّخى من انتخابات ديمقراطية الواجهة ثلاث غايات برجماطية تتحوّل إلى ثلاث مخادعات سياسية:ـ تحوير مفهوم الانتخابات من مبدأ تداول للسلطة ومسألة روتين للتناوب على إدارة دفة البلاد إلى مبدأ تمكين، بل قضية حياة أو موت بالنسبة للأحزاب الدينية المؤدلجة، وتقاسم حصص في كعكة السلطة بالنسبة للأحزاب السياسية غير الدينية، وبالنسبة للمترشحين الأفراد شغل وظيفة للترّبح مُرتباً وامتيازات. ولم يعد المنتصر هو الحزب الذي يفوز بأغلبية الأصوات بناءً على أهدافه وبرنامجه، بل الذي يتمكّن فيما بعد بالتلاعب بالتكتلات والجهويات، وبدلا من أن يسعى إلى خدمة الصالح العام في المدة الانتخابية المحدّدة يتفانى في إدامة سلطته وإطالتها ما أمكن من الزمن بإقصاء معارضيه، أو اختلاق الأعذار للتمديد في المدد الانتخابية، أو بالتمديد لمشروعيته بدون الرجوع إلى القاعدة الانتخابية، وهذا ماخبرناه في ظاهرتي المؤتمر الوطني العام ومجلس النوّاب في الحالة الليبية.

ـ المشاركة الكثيفة للناخبين عادة ماتُعدّ إنجازاً لديمقراطية الواجهة وآداتها الانتخابات، ولكن في واقعها هي ليست أكثر من تعبير رمزي عن حرية مكبوتة في الحقبة الدكتاتورية السالفة، أو نجاح السياسات المستندة إلى الهويات الانقسامية وتكتيلها على المحاصصة بدلاً عن السياسات الوطنية الموحدة والمعممة. وفي كل الأحوال لن تكون المحصلة لهذه الانتخابات إفراز حكومة فاعلة، أو ظهور كفاءات وطنية قادرة على إدارة الشأن العام، وهذا ماشهدناه في الحكومات الليبية الثلاث التي تداولت السلطات التنفيذية.

ـ الركون إلى أن الموارد الاقتصادية المتوفرّة كالريع النفطي، أو الأموال المُجنّبة لمصالح الدكتاتور وأغراضه والموضوع عليها اليّد في حسابات خارجية، تساعد أحياناً في دعم ديمقراطية الواجهة، ولكن في حالة الدولة التي تمزقها الاختلافات، والتجاذبات تصبح تلك الموارد عاملا مؤججاً للصراع وعنصراً مشجعاً على الاستئثار بالسلطة، بغرض الحصول على حصة في هذه الأموال، وبناء مؤسسة فساد جديدة أسوأ من منظومة فساد الحقبة الدكتاتورية السابقة.

تقود الديمقراطية المنشغلة بالمظاهر على حساب الجوهر والمهتمة بعملية انتخابية ناقصة في الأغلب إلى مفاقمة العنف السياسي الذي ينتج من الحالة المجتمعية الاستثنائية المعبر عنها بالتمرّد أو الانتفاضة، أو الثورة، وبدل تقليص العنف والحد منه، نراه يتمادى كما في الحالة الليبية في سلوكات حرابية وإجرامية بأسباب تفكّك المؤسسة العسكرية والأمنية التي لم تكُن مؤسسة في السابق على مبدأ وطني، والعجز شبه الكامل من الحكومات الناتجة عن هذه البيئة السياسية المختلّة، حيث ضعفها والنقص في مصداقيتها يساهم في استمرارية العنف الاستثنائي بمعاذيره ومبرّارته المألوفة كالمحافظة على الثورة، واستمراريتها وسحق الثورة المضادة، وفي الحالة الليبية شهدنا تنصّل المنتخب من موقعه السياسي وشغله لموقع احترابي كونه طرفاً وقائداً لفصيل عسكري محارب لفصائل منافسة حلّت كميليشيات بديلة عن الجيش والشرطة. فعكس ما يُنتظر من الديمقراطية التي يفترض فيها تكريس وحفظ الاستقرار وتدبير الاختلاف بين أطراف المجتمع المختلفة، يتّم اللجؤ إلى هذا الشكل المصطنع من السياسة التي تكون عاملا مؤججاً لزعزعة الاستقرار في البلدان الهشة التي مرّت بحقبة دكتاتورية طويلة لم يسمح فيها بتطور مؤسسات مجتمعية قوية قادرة على احتضان الفكر الديمقراطي وترجمته عمليّاً إلى ازدهار اقتصادي واستقرار سياسي عبر قواعد واضحة، وتقاليد سياسية راسخة، وفي ظل إنفاذ تام لنظام المراقبة وتوازن السلطات وتوزيع عادل للموارد وسيادة حكم القانون والمساءلة القضائية.

نخرج من هذه التجربة السياسية التي أسميناها بديمقراطية الواجهة بثلاث خُلاصات: ـ أنه من التبسيط بل والخطورة بمكان افتراض أن الانتخابات التي تلي مرحلة الصراع تمثل مخرجا من مخاطر الحرب. قد تطفو على الجو السياسي العام قشرة خارجية مضللة تجنح مؤقتاً للسلم وتركن لقوانين اللعبة الانتخابية، لكن بمجرد توالي ظهور نتائج الانتخابات يختفى ذلك الشعور بوجوب التوجه نحو الديمقراطية، فيكون البديل التمكين بأدوات العنف.

ـ تبدو في ديمقراطية الواجهة أن أكثر الاستراتيجيات الانتخابية مخالفة للقواعد هي ألأكثر فاعلية وأن احتمالات الخسارة ستكون للمرشحين الذين يحاولون ممارسة قوانين التحاكم إلى المبادئ الديمقراطية في حدّها الأدنى.

ـ أن الأفراد ذوي الميول الإجرامية هم الأكثر احتمالا لولوج عالم السياسة والنجاح فيه!!. وهذا لايكون فقط في البلدان التي تفتقد إلى الاستقرار بسبب الفقر في الموارد، بل المفاجأة الليبية أثبتت حصول ذلك في البلدان الغنية بالموارد الطبيعية.

هل من بديل لهذا المسار السيزيفي؟!. نعم إنه سياسي، ولكن من ينفّذه على الأرض ؟هذا هو السؤال! وحتى الإجابة عليه ليس أمامنا إلا تكرار الانتخابات ذاتها.

Exit mobile version