مانشيت

مجموعة «لا تولد قبيحًا»: أحلام إنسان في مجتمع قبيح

عبدالرحمن نصر

يصدم عليش قراءه بهذا النهي كعنوان لمجموعته القصصية التي يمكن أن نعتبرها بمثابة أحلام الكاتب في مجتمعنا القبيح.

رجاء عليش: كاتب مصري، مات منتحرًا بواسطة رصاصة في رأسه لينهي حياة كانت مليئة بالمآسي وشتى ألوان المعاناة بسبب كونه قبيح الوجه!

في رسالته التي وصلت إلى النائب العام بعد وفاته يقول عليش:

عشت هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شيء.

ربما هذه الكلمات تعطينا لمحة عن الحالة التي وصل إليها عليش قبل أن يقدم على الانتحار. فهل من المنطق أن يختار المرء بإرادته أن يولد قبيحًا أو وسيمًا أو حتى الاختيار بينهما؟

في مقدمة كتابه هذا، يرثي الكاتب والدته التي كانت آخر حصونه الدفاعية في هذا المجتمع الذي ما انبرى أفراده يكيلون له مختلف صنوف الذل والإهانة.

إلى الصدر الحنون الذي أرحت فوقه رأسي المتعبة المثقلة بأحزان حياتي، إلى القلب الذي أحبني عندما كرهني العالم، قدّرني عندما احتقرني العالم، إلى الابتسامة الوحيدة الحنون في حياتي.

ويقال إنه لم يحتمل الحياة بعد وفاتها وسارع للحاق بها عندما لما يجد من يعوضه عنها قيد أنملة.

‏أنا رجل بلا امرأة، بلا حقل للقمح، بلا كرة للعب، بلا ذكريات مضيئة، بلا طريق للمستقبل.. على قبري سيُكتب: هنا يعيش إنسان مات أثناء حياته.

هكذا يصف عليش نفسه. وبرغم كونه ثريًا في حياته إلا أنه عاش منبوذًا، وحيدًا. لم يلقَ لا القبول الاجتماعي ولا الأدبي بسبب خارج عن إرادته، فهو لم يختر أن يكون قبيحًا!

في عشر قصص يحكي لنا بروحٍ مليئة بالحقد والغضب والاحتقار عن حياة المنبوذ في مجتمعنا.

‏لو أن الغزاة قدموا إلى مدينتي الميتة القلب لفتحت لهم الأبواب ولما رفعت سلاحًا ضدهم، لأنهم يحملون الإذلال والعار للناس الذين أكرههم من أعماقي.

يمتاز عليش ببراعة أدبية منقطعة النظير خطها بقلم صادق المعاني والمشاعر للغاية. يكاد القارئ يشعر بالإهانات، ونظرات السخرية القاتلة الموجهة لشخوص قصصه، الانفعالات التي تحدث بداخلهم وتمزق أرواحهم.

تتنوع القصص ما بين حكايات مأخوذة من واقع الكاتب، أو طموحات وأحلام لم يتمكن من تحقيقها في حياته المريرة.

يتنقل في أسلوب الحكي من قصة لأخرى؛ حيث نجده يسرد القصة بأسلوب الراوي العليم، متحدثًا بضمير الغائب عن البطل الذي يعرف القارئ مسبقًا في أغلب الأحيان، أن هذا البطل ما هو إلا تجسيد للكاتب نفسه نظرًا للتشابه الواضح بين الأحداث المكتوبة والواقعية للكاتب. وسنجده يستخدم هذا الأسلوب في كل القصص المأخوذة من واقعه تقريبًا التي تصف معاناته ومشاكله في حياته اليومية. أما في تلك التي تحكي عن طموحاته التي لم تتحقق فعليًا، كحصوله على زوجة وأسرة محبة، نجده يتحدث عن بطل أحلامه – الوردية – بصيغة المتكلم ويحكي قصته على لسان البطل شخصيًا، وكأن عليش انقسم إلى شخصين داخليًا. هذا الشخص ذو الوجه القبيح هو الجانب المظلم منه ولهذا ينكره، ينفر منه، لا يريد حتى أن يتحدث عنه بصيغة الأنا.

أما هذا الشخص الطموح – الذي لا نعرف تحديدًا إن كان قبيح الوجه أم لا، لكن نعتقد على الأرجح أنه على النقيض من هذا – يتحدث عنه بصيغة الأنا واثقًا من نفسه، وكأنه يريد أن يقول لجلاديه: إنّ خلف هذا الوجه الذي تنفرون منه هذا الرجل الناجح. ولكن حتى هذه الحياة التي خطها بين دفتي كتابه لأنه لم يحصل عليها في حياته الواقعية ليست وردية تمًامًا، حيث نجد بعضًا من جانبه القبيح والمظلم بين جنباتها.

يقول الناقد الأكاديمي تيري إيغلتون في كتابه «كيف نقرأ الأدب» متحدثًا عن الجملة الاستهلالية المقتضبة «Call Me Ishmael» في رواية «موبي ديك» للكاتب هيرمان ملفيل:

إن عبارة «Call Me. Ishmael»، خطاب موجه إلى القارئ، ومثلما هي كل الخطابات، إنه يفضح اللعبة القصصية. إن الاعتراف بوجود قارئ يعني الإقرار بأن هذه الرواية واقعية.

إن جازَ لي استعارة هذا التحليل مع التصرف فيه قليلًا فسأقول إنه بمجرد أن يسمي الكاتب شخوص حكاياته فإنه يجعل الحكاية أقرب إلى الواقع، وبالتالي سيفهم القارئ هذه اللعبة كما يوضح إيغلتون. فتسمية الأشياء أو الأشخاص تجعل القارئ أكثر تفاعلًا مع أحداث الحكاية، تجعلها أسهل للتذكر مع مرور الزمن، حتى وإن طالها بعض النسيان ستبقى الأسماء في الذاكرة. على النقيض تمامًا نجد أن عليش لم يعطِ اسمًا واحدًا لشخوص قصصه كلها عدا قصة واحدة. لا يريد أن تبقى الأسماء في الذاكرة كما هو المعتاد، ولكنه يريد أن تُحفر الأحداث في الأرواح، حتى لا ينسى المجتمع ما لقيه في حياته منهم، وما هي الأسباب التي دفعته لأن ينهي حياته.

هذه هي القصة الوحيدة التي أعطى فيها عليش لبطله ليس اسمًا فقط، بل أصدقاء أيضًا. يمكننا أن نعرف ونتذكر مستقبلًا كذلك كيف كان يريد لحياته أن تكون، فهو في الغالب كان يريد أن يكون كاتبًا كما هو، ولكنه كان سيكتب عن شخصيات إنسانية حقيقية، شخصيات يعرفها جيدًا، يخبر الناس بحكايتهم ومعاناتهم مثلما فعل في هذه القصة. فاختار بطله (علبة) ماسح الأحذية في البار الذي اعتاد الذهاب إليه في كل ليلة مع أصدقائه ليجعله بطل كتابه الأول.

يقوم عليش أيضًا بعقد مقارنات في قصصه لكي ينتقد مجتمعه في طريقة الدفن على سبيل المثال. فهو ينجذب وبشدة إلى طريقة الدفن في الدول الغربية، أماكن المدافن في الأراضي المنبسطة الخضراء، الرجال والنساء واقفون في وقار وسكينة في أيديهم باقات الورود الملونة أمام التابوت الخشبي الذي يحفظ ميتهم من التحلل السريع في الأرض، أو عن طريق حرق الجثث لكي تتحد ذرات الميت مع الذرات المختلفة في الطبيعة. يبدو أنه لم يستطع نبذ فكرة كونه منبوذًا وحيدًا في مكان موحش تحت الأرض كما كان فوقها!

يقارن أيضًا بينه كشخص قبيح الوجه وبين آخر وسيم ويحكي كيف كانت حياته ستكون خالية من كل المشاكل تقريبًا.

‏هذه إحدى ميزات الوسامة الشديدة، أن يصدقك كل الناس بينما أنت تكذب عليهم، أما القبيح المكروه من كل الناس، فإن أحدًا لن يصدقه حتى لو قال الصدق.

جاءت آخر قصصه متخذة النصيحة والعظة تميمة لها. فهو يخبرنا في آخر رسالة له في هذه الحياة ويحثنا على أنه ليس بالضرورة أن تكون قبيح الوجه ولكن إياك أن تكون قبيح الروح.

في النهاية، لا أستطيع تحديد شعوري بوضوح تجاه رجاء عليش، أهو الحزن على ما لاقاه في حياته، والحزن الأكبر على انتحاره، أم هو السعادة لأنه أنهى هذه الحياة القاسية؟ ولكن ما أنا متأكد منه أننا خسرنا إنسانًا كان كل أمله في هذه البسيطة أن يراه الناس في صورته الإنسانية.

الجدير بالذكر أن عليش قام بنشر مجموعته القصصية «لا تولد قبيحًا» وروايته «كلهم أعدائي» على نفقته الخاصة قبل انتحاره في عام 1979. كما أنه قد ‏أوقف إرثه على رعاية المبدعين الشباب ونشر أعمالهم، وهي وصية لا تَصدر عن مريض نفسي، لكن ذويه طعنوا بالوصية والموصي طمعًا منهم بالورث.

جاء في تقرير الشرطة أن الكاتب المذكور وُجد في سيارته منتحرًا على مقربة من شقتين كان يمتلكهما في الحي نفسه، ولم تُعرف أسباب الانتحار حينها.. ولكن ها نحن نعرف الأسباب!

Exit mobile version