طبعة شعبيّة لأعماله في بلد صلاح عبد الصبور، حيث يملك تأثيراً خاصاً ــ بين «روّاد الحداثة» ــ على الشعراء الجدد. وبيروت تستعدّ للاحتفال بسبعين صاحب «لن» الذي التصقت به صفة «المتمرّد» و«الملعون». ماذا لو نعيد قراءة أنسي الحاج؟
ما إن يأتي ذكر أنسي الحاج حتى نذهب فوراً إلى مجموعته الأولى، بل يذهب معظمنا إلى مقدمة تلك المجموعة التي اعتبرت، وما زالت، البيان الأول والأكثر حيوية ونضارة لما يمكن أن تكون عليه قصيدة النثر العربية. لكن هذا الذهاب يتوقف غالباً عند المقدمة ولا يتوغل في الإنجاز الشعري الفعلي الذي تحقق فيها والوعد الذي قطعته على نفسها، وعلى القارئ، بما سيكتبه الشاعر لاحقاً.
إنه ذهاب سريع، ويكاد أن يكون سلوكاً بافلوفياً، بالنسبة إلى بعضهم، يربط اسم الشاعر بـ“لن” وحدها. صحيح أنّ هذا الذهاب يكشف بصمة أنسي الحاج المبكرة والقوية والمتفردة، إلا أن ذلك يكشف أيضاً سلوكاً نقدياً شديد الكسل… الاعتراف بالسمعة الطيبة لتلك المقدمة، ولـ“لن” عموماً، يوقف الشاعر عند تلك اللحظة، ويكتفي بها، غافلاً عن منجزه المترامي الحدود.بقي أنسي الحاج على الدوام شاعر “لن”، رغم التقدير الذي حظيت به مجموعاته الأخرى. وهذا المديح الجاهز يتجاهل التفاصيل الكثيرة والخصبة في تجربته، يتجاهلها ويجهِّل القارئ بها.
هذا النقد الاختزالي هو وراء تنميط أنسي الحاج، ودمغه بصفات وألقاب مثل “المتمرد” و“الثائر” و“الوحشي” و“الملعون”. ألقاب، وإن رافقته حقاً، وخصوصاً في أعماله الأولى، تحولت لاحقاً إلى حجب وعوائق تمنع القارئ من التفاعل مع التجربة الحية. إن تنميط الشاعر واختزاله منعا النقد نفسه من معاينة تحلّل صفات الثورة والتمرد والوحشية وتشظيها، إلى تدرجات وأطياف جزئية ومتناهية في الصغر. باتت “لن” نوعاً من اللعنة والنعمة في آن معاً. كثيرون اليوم، يحفظون عناوين مجموعات الشاعر أكثر من تذوقهم لإضافاته الشعريّة. أنسي الحاج مجرّد موضة؟ بقي الاهتمام مركزاً على ألقاب الشاعر وصفاته، فيما هو يوسّع مساحاته… ما أثّر سلباً في استقبال القارئ لكتابات أنسي الحاج الأخيرة. وحين كان بعضهم يزعم أن “خواتم” و“الوليمة”، مثلاً، أقل وحشية وأقل رفضاً وثورية، فإنهم كانوا يشيعون نوعاً من المساواة الواهمة بين شعرية تلك الأعمال والصفات الأزلية للشاعر. توهّم هؤلاء أن شعر أنسي هو، فقط، ألقابه وصفاته!
أوقفنا أنسي عند حدود “لن”، غافلين عن أنّ الشاعر دعانا إلى مجاراة وحشيته وهي تتقدم في “سن” المعنى وتكتهل… دعانا إلى ملامسة رفضه وثورته ولعنته وهي تتصفى وتكتسي بالحكمة من دون أن تتروّض أو تفقد توترها وحسيتها ووثوبها. باتت شعريّته في قاع الجملة وأحشائها. وإذا كان هدير “لن” يُسمع حتى اليوم، بفعل تدفق اللغة، فإن الشاعر، دعانا لاحقاً ــــــ وخصوصاً في “ماذا فعلت بالوردة ماذا صنعت بالذهب” ثم “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” ــــــ إلى “وليمة” شعرية أكثر صفاءً وأكثر عمقاً. العبارة تقود اللغة الهادرة والمندفعة إلى مصباتها. كان كلما ازداد عمق المعنى، خفت هديره على السطح.
لم يبدل أنسي الحاج جلده. ما زال ذلك الشاعر الذي يهرب من رخاوة اللغة وروتينها المعجمي. لم ينكر ثورته ووحشيته في “لن” و“الرأس المقطوع”. لكن من اعتاد الأصوات العالية، ووطّن سمعه النقدي عليها، سيفقد الاتصال والتواصل مع جملة الشاعر، وهي تمتلئ وتنزل إلى الأعماق. التوتر بات مغلفاً بما راكمته التجربة والممارسة. ويكفي أن نحكّ جملة أنسي الحاج اليوم، لكي تكشف لنا عن روح ذلك الشاعر الذي أراد أن يسمعنا صوته الخاص والمنفرد قبل أكثر من أربعة عقود.
أليس غريباً أن يُشهر شعراء قصيدة النثر اسم أنسي الحاج كواحد من أسلافهم الكبار، بينما قراءته لا تزال متوقفة عند مجموعة “لن” ومقدمتها؟ طبعة جديدة من أعماله الكاملة في القاهرة قد تكون مناسبة لقراءة حقيقية ومنصفة.
إنه أنسي الحاج فقط، ألا يكفي هذا كي نحبه؟
محمد شعير
“في مرسم الصديقة الفنانة اللبنانية نجاح طاهر، قابلت أنسي للمرة الأولى»، يعود الشاعر عبد المنعم رمضان إلى الوراء، ليتذكر أول لقاء بينه وبين صاحب “الوليمة”. يضيف: “كان اللقاء تتمة لقاءات بدأت منذ أوائل السبعينيات منذ التقيت جماعة “شعر”. أنسي الحاج ظل أثناءها وحتى الآن على صورة الشاعر الأنقى، إنه الأنقى بيننا، لعله أدونيس من قال ذلك ذات يوم”.
ويرى رمضان أنّ أهمية شعر أنسي تعود إلى “خيوط اللازمنية التي تضمن للشعر بعض سحره وإمكان تجدّد العلاقة به. إنّه شعر يثمر عندما يستعاد. وفي شعر أنسي هاجس يصدم شعراء جدداً كثيرين بات شائعاً لديهم هذه الأيام تمجيد البراءة، براءة المعرفة. أنسي يرفض تلك البراءة، كأنها أتربة علقت بجسد من الأفضل أن يغتسل لنراه عارياً. شعر أنسي سيرينا هذا العري، ولغة شعره ليست كساءً شفافاً، ليست غيمةً، ليست وسيلةً ولا غايةً. إنّها الجسد العاري نفسه حيث عريه معرفة، وحيث معرفته عري”. ويضيف: “ولأنني لست شاعراً مصرياً، أعتقد أن أنسي ليس شاعراً لبنانياً. مصر بالنسبة إليّ مصادفة تشبه الضرورة ولبنان بالنسبة إليه ــ على ما أظن ــ مصادفة تشبه الضرورة. السبعينيات بالنسبة إليّ مصادفة لا تشبه الضرورة والستينيات بالنسبة إليه مصادفة قد تشبه وقد لا تشبه الضرورة. ولذا سأقول إنه أنسي الحاج فقط، ألا يكفي هذا لكي نحبه ونحبّ أنفسنا!”.
الناقد والشاعر محمد بدوي يرى أنّ أنسي الحاج شاعر خاص، صعب، عالمه فردي ما حدّ من تأثيره في القصيدة المصرية: “تجربته بين أكثر التجارب تطرّفاً فى رفض الموروث. وإنه بعد ديوانيه “الرسولة” و“الوليمة”، تحوّل إلى شاعر خلاص بالمعنى المسيحي. وهي مفردات بعيدة عن اهتمامات القصيدة المصرية”. ويتوقع بدوي أن يتضح تأثير أنسي في القصيدة المصرية خلال المرحلة المقبلة، “لأن بعض التجارب الجديدة تحتفي بالفردية وهذا رهان من رهانات أنسي: عدم المراهنة على الجمهور”.
الشاعر إبراهيم داوود يرى أنّ صدور أعمال أنسي الكاملة في مصر تأخّر كثيراً، “لأن أنسي مع الماغوط وسعدي يوسف هم الآباء الشعريون للقصيدة الجديدة في مصر، وهم الأقرب إلى ذائقتنا”. ويضيف: “أنسي كان ضد سطوة البلاغة العربية، أو البلاغة الأوروبية. من هنا، كان تأثيره عميقاً على رغم حضوره الخافت”.
منذ بدأ الشاعر علاء خالد الكتابة، كان أنسي من أوائل الشعراء الذين تعرّف بهم، وهو مع سليم بركات الأقرب إلى ذائقته الشعرية. “كان تأثير بيانه الشعري في ديوان “لن” عميقاً في تجربتي. لم تكن أهمية البيان لأسباب شعرية فحسب، بل أيضاً لِما قدّمه من تصوّرات لفكرة السلطة والشعر، وكيفية وجودهما معاً”. الشاعر فتحي عبد السميع كان يتمنى ألا تتصدر الأعمال مقدمة ديوان “لن”، لأن أنسي نفسه “لم يخلص لتلك المقدمة بل تجاوزها. لذا كنت أتمنى أن تتصدر الأعمال مقدمة طويلة عن تجربة الشاعر”.
أما الشاعر أحمد طه فيرى أن أنسي شاعر ينتمي إلى المدرسة البيروتية التي لم تؤثر في الشعر المصري لأن لها تقاليدها الاجتماعية، وأن تجربة رواد هذه المدرسة هي “روحية” لا يمكن استنساخها في كثير من المجتمعات. ويعتقد أن صدور أعماله الكاملة في مصر، بداية لمعرفة حقيقية.
“هل أنت غير معروف في مصر؟” سألت الناقدة والصحافية عبلة الرويني الشاعر أنسي الحاج منذ سنوات خلال زيارتها بيروت. غضب الشاعر من السؤال، كما كتبت الرويـــــــني، رافضاً الإجابة عن بقية الأسئلة. وكانت الحكاية بأكملها مادةً خصبةً لمعركة مفتعلة حول الشعر المصري واللبناني.
الرويني حكت القصة في كتابها “الشعراء الخوارج”، موضحةً أنّها أرادت بسؤالها معرفة أسباب رفض أنسي المشاركة في الندوات والمؤتمرات في مصر، فضلاً عن ارتفاع أسعار كتبه. لكن ابتداءً من هذا الأسبوع، بات في استطاعة القارئ المصري أن يحصل على الأعمال الكاملة لأنسي الحاج في طبعة شعبية صدرت في ثلاثة مجلدات ضمن سلسلة “الأعمال الكاملة” عن “هيئة قصور الثقافة”.
ضمّ الأوّل: “لن”، و“الرأس المقطوع”، و“ماضي الأيام الآتية”. والثاني: “ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟” و“الرسولة بشعرها الطويل حتى الــــــــينابيع” و“الوليمة”. فــــــــيما حـــــوى الثالث كتاب “خواتم” بجزءيه.
وكان الشاعر عبد المنعم رمضان وسيطاً بين الهيئة وأنسي الذي تنازل عن حقوقه الماديّة. ويأتي إصدار أعمال أنسي ضمن مشروع هيئة قصور الثقافة (يتولّى مسؤولية النشر فيها الناقد أحمد مجاهد) بإصدار سلسلة الأعمال الكاملة لعدد من الأدباء العرب، وتوزيعها بأسعار رمزية. وتصدر تباعاً ضمن السلسلة أعمال الراحل فؤاد حداد، وأدونيس وسعدي يوسف، وقريباً الراحل صلاح جاهين. فيما يغيب محمود درويش عن السلسلة لأن حقوق النشر الحصريّة لـ“دار رياض الريس” في بيروت، كما وقّع عقداً مع “دار الشروق المصرية” لإصدار مختارات من أشعاره.
يذكر أنّ الهيئة العامة لقصور الثقافة كانت وراء أعنف أزمتين شهدتهما مصر في العقد الماضي، بعد نشر رواية “وليمة لأعشاب البحر” للسوري حيدر حيدر… ثم نشر 3 أعمال روائية لكتّاب شبان اتُهمت بخدش الحياء… ومنذ قرابة عام، تولى الناقد أحمد مجاهد مسؤولية النشر في الهيئة، فألغى رقابة الموظفين أو ما سمي «سلطة المصحّحين»، وأطلق سلسلة الأعمال الكاملة.
بين الصحافة والشعر
بداية أنسي الحاج (1937) كانت في الصحافة (“الحياة” ثم “النهار”). وعام 1964، أصدر “الملحق الثقافي” عن “النهار”، في البداية مع شاعر “خارجيّ” آخر هو شوقي أبي شقرا، ثم واصل تلك التجربة المرجعيّة منفرداً حتى عام 1974… ليواكب “الملحق” العصر الذهبي للثقافة اللبنانيّة. وشغل لاحقاً منصب رئيس تحرير “النهار” من 1992 حتى استقالته المدوّية عام 2003. وهو حالياً مستشار مجلس التحرير في جريدة “الأخبار” ومن أبرز أقلامها. أطلق مجلة “شعر” (1957) مع يوسف الخال وأدونيس وأبي شقرا، وعنها صدرت “لن”، باكورته التي شكّلت مفترقاً في مسار القصيدة العربية. عرّب نصوصاً لشكسبير وكامو… قدّمها مخرجون كبار في عزّ ازدهار المسرح اللبناني.
عكس التيّار
في تاريخ القصيدة، هناك ما قبل “لن” (1960) وما بعدها. بلغة جديدة، مفاجئة، أطلّ شاب في الـ 23 على المشهد الشعري. إنّه أنسي الحاج الذي أبحر عكس التيار، رافعاً لواء قصيدة النثر. ثمّ أصدر “الرأس المقطوع” (1963)، “ماضي الأيام الآتية” (1965)، “ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة” (1970)، “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” (1975)، وقد أعادت “دار الجديد” اصدارها في التسعينيات. وبعد قطيعة طويلة “الوليمة” (1994).
وجمع مقالاته تحت عنوان “كلمات كلمات كلمات” (1978)… ثم جاءت “خواتم” في جزءين (1991-1997) لتخوض في التأمل الفلسفي .