مانشيت

جرائم وأضرار نفسية… هذا ما أحدثته الحرب في اليمن

محمد علي محروس

أحدثت الحرب شرخاً في المجتمع اليمني الموسوم بالتلاحم والقيم التي تميزه عن غيره من المجتمعات العربية، إذ باتت الجرائم عند البعض ميزةً يُعرف مرتكبوها كأبطال صنعوا المجد، دون أية ردة فعل حقيقية، ولهذا أبعاده النفسية والاجتماعية المدمرة، في مجتمع يحاول إعادة ترتيب أوراقه، وجمع شتاته، بفعل الحرب التي استهدفت الهوية اليمنية الجامعة.

وخلال سنوات الحرب المستمرة منذ مارس 2015، تجلت الجرائم الجنائية بأبشع صورها في أكثر من محافظة، كما هو الحال في جريمة قتل عبدالله الأغبري، التي وُصفت بالأبشع في تاريخ اليمن الحديث، تناوب على قتله 6 أشخاص، خلال 6 ساعات كاملة.

دشنت هذه القضية التي عُرفت ملامحها بفعل تسريبات لفيديوهات مصورة، ظهور سلسلة جرائم حدثت على النحو ذاته، في مناطق متفرقة، خلال السنوات القليلة الماضية.

ففي محافظة إب (وسط اليمن) الخاضعة لسيطرة الحوثيين، تسبب تنمر عاقل حارة على بائع آيسكريم، في محاولة انتحار الأخير، ليلقى حتفه متأثراً بإصابته، بفعل ما لاقاه من تنمر أثناء مطالبته بأسطوانة غاز، وهي واحدة من صور الحرب التي أحدثتها على المستوى الاجتماعي.

عادل عمر : التضييق الحاصل على مساحة الحريات قد أثر بصورة مباشرة على المناصرة الميدانية للكثير من ضحايا الجرائم، لكن لايزال هناك فعاليات احتجاجية تتم في أكثر من مكان .

ما علاقة الحرب بتفاقم الجريمة؟

قد يكون للحرب الدائرة في اليمن انعكاسها على الوضع الاقتصادي، الذي بدوره انعكس بصورة سلبية على الوضع الاجتماعي، أضف إلى ذلك ضعف أجهزة الدولة في القيام بعملية الضبط، لكن، إجمالاً، لا يمكن النظر إلى الأمر بأن هناك حالة من التعايش مع الجرائم المجتمعية، بهذا يبرئ الصحفي والناشط الحقوقي عادل عمر، ساحة الحرب كمتهم أوحد، جراء ما آلت إليه الأوضاع، في ظل تفاقم الجرائم المجتمعية الشنيعة.
ويعتقد عمر أن التضييق الحاصل على مساحة الحريات قد أثر بصورة مباشرة على المناصرة الميدانية للكثير من ضحايا الجرائم، لكن لايزال هناك فعاليات احتجاجية تتم في أكثر من مكان؛ مستشهداً على قوله بالتظاهرات التي نددت بالجريمة التي ارتكبت بحق عبدالله الأغبري، وأيضاً ما حدث في محافظة إب من مسيرات ووقفات احتجاجية؛ تضامناً مع الطفل رعد الزنداني وشقيقته، وغيرها من الوقفات الاحتجاجية التي تتم أمام مقرات الأجهزة الأمنية أو القضائية، تدل دلالة كبيرة على أنه لا وجود للتعايش مع الجرائم المجتمعية، ولا يتعامل معها المجتمع ببرود، بحسب متابعتي لبعض الجرائم المجتمعية، حسب قوله.

يخالفه الناشط الحقوقي نور الدين المنصوري، الذي صوَّب سهامه تجاه الحرب، مؤكداً أنها منبع كل الأسباب لانتشار الجريمة، وهذا هو واقعنا في اليمن، كما يقول.
ويضيف المنصوري: “منذ أن اندلعت الحرب، عام 2015، توقفت الحياة، وعندما نتحدث عن توقف الحياة، نقصد بها توقف التعليم، توقف أغلب العاملين عن أعمالهم، وجميع وسائل الحياة، كأن الحياة توقفت عن الدوران”. وهذه من وجهة نظره “أسباب تقود المجتمع نحو المجاعة، التي ظهرت بشكل واضح بعد مرور عام من اندلاع الحرب، ورأينا أغلب المنظمات الدولية تناشد المجتمع الدولي أن اليمن يشهد أكبر مجاعة في العالم، وكل هذه المؤشرات تؤكد لنا ارتفاع نسبة وقوع الجريمة، وبدون مقدمات”.
ويتابع: “عندما يتوقف رب الأسرة عن العمل، وتفقد أسرته مصدر عيشها، ويصعب الحصول على عمل، فهذا كافٍ ليكون سبباً رئيساً لانتشار الجريمة، أو ذهاب الأبناء للالتحاق بمعسكرات القتال؛ كونها المؤسسة الوحيدة التي تشهد تطوراً في فترات الحروب”.

وتربط الصحفية عبير واكد، الانفلات الحاصل، والمسبب لعدد من الجرائم المجتمعية، بغياب فاعلية الدولة، وانعدام حضور مؤسساتها على أرض الواقع، وما صاحب ذلك من اختلالات صنعت واقعاً مختلفاً للغاية.
ولا تستثني واكد نتائج الحرب وانعكاساتها كأسباب مباشرة لما آل إليه الوضع مؤخراً، فالناس لم تجد ما تأكله، والاقتصاد آخذ في الانهيار، وهذا أدى لظهور سلوكيات قسرية؛ لضمان حق العيش على حساب مجتمعه ومحيطه، والكلام هنا لواكد.

أبعاد نفسية

وتقول الأخصائية النفسية منى الذبحاني: “الحروب أوضاع استثنائية يواجهها الإنسان، ولكل وضع استثنائي ردود أفعال استثنائية، هذا الحدث الاستثنائي والمزعج مثير لخوف كبير، ومشاعر غير واضحة، مثير لفكرة أن العالم غير آمن ولا عادل، يجعل الفرد يفكر بأنه لا يمكن التنبؤ بما قد يحدث، مما يجعله يشعر بالعجز والمزيد من الخوف”.
وتؤطر الذبحاني ذلك في سياق علم النفس، فتضيف: “حدث كهذا مثير لأفكار ومشاعر يسمى “الحدث الصادم”، والحروب أحد أشكال الأحداث الصادمة، فكما تعمل على إظهار الجانب الخير من الإنسان، إلا أنها تسهم أيضاً في إظهار الجانب المظلم من الإنسان، مع التآزر مع عوامل أخرى كنوع شخصية الفرد، قابليته الكبيرة للتأثر بالصدمة لفترة طويلة، ضعف صلابته النفسية، وعدم تواجد دعم مجتمعي في هذه الأحوال الاستثنائية”.

أوضاع قلقة غير مستقرة تجعل منه يعاني من القلق والخوف على وجوده، مما يسبب له الاستثارة السريعة والقابلية للقتال على أصغر الأسباب .

وترجع زيادة ارتكاب الجرائم في الوضع الراهن، إلى الأسباب التالية: الإنسان بطبعه كائن يبحث -عادة- عن مصلحته، فأوضاع قلقة غير مستقرة تجعل منه يعاني من القلق والخوف على وجوده، مما يسبب له الاستثارة السريعة والقابلية للقتال على أصغر الأسباب، ورؤية الموت يحلق فوق كل منزل، سماع الصرخات والأنات، رؤية أشلاء القتلى، جميعها حالات صادمة تفوق قدرة البعض على تحملها، مما يجعلهم يعانون من بعض الاضطرابات النفسية، ومن ضمنها كرب ما بعد الصدمة والفصام، كلا الاضطرابين تظهر أعراضهما في فترة متأخرة عن الحدث الصادم (6 أشهر على الأقل)، وفي كليهما يميل الذكور إلى العنف لأصغر الأسباب، أو حتى من دون أدنى سبب، وللبعض ميل لارتكاب الجرائم، فالتعرض للضغوط الشديدة الناتجة عن الحروب يؤدي لانفجار هذه الميول، وعوامل تسبقها كالتنشئة الأسرية، المحيط المجتمعي العنيف، عدم استيعاب الأسرة أن سلوك طفلها هو عنف لا (شقاوة) أو رجولة هي من الأساسات الأولية لهذه الميول، وتشجيع الذكور منذ الطفولة على العنف بحجة أنه “رجولة”، فضلاً عن التغاضي عن بعض التصرفات المخلة بحجة أنهم “ذكور” لا يعيبهم شيء، أو أن هذا السلوك ذكوري لا بأس بالقيام به، هي بذرة تغرس فيهم وتكبر مع مرور الزمن.

 

الهروب من العلاج

ومن وجهة نظر الذبحاني، فإن كثيرين يخشون من التعامل مع المختصين النفسيين بسبب الوصمة المجتمعية اللصيقة بمن “يفضفض” لمتخصص، فأصبح الكثيرون يميلون للحديث مع من لن يسهموا في إيجاد حلول جذرية لمشاكلهم إن تحدثوا، ولهذا السبب فالكثير من المشاكل النفسية تتطور لتصبح اضطراباً.
وكأخصائية نفسية، فإنها ترى أن هنالك العديد من الحلول التي تسهم في الحد من ظاهرة العنف قبل وقوعها بأمد طويل، ومنها عمل حملات نفسية تقودها وزارة الصحة عن الاضطراب النفسي، وأنه ليس “جنوناً” كما يطلق عليه، وتوعية المواطن اليمني أن “من حق كل مواطن الوصول للخدمات النفسية الأساسية، أو حتى التخصصية”، والرفع من وعي المواطنين بماهية الاضطرابات النفسية والتغيرات التي تحدث للإنسان قبل أغلب أنواع الاضطرابات، وإلزام كل مستشفى بوجود قسم علاج نفسي، والاستناد على معايير فيزيائية ومهنية تعود بالفائدة للمسترشد، وتوفير أخصائي نفسي في المدارس بمعدل أخصائي لكل 500 طالب، إضافة إلى حث المواطنين على زيارة المختصين النفسيين عند التعرض لأية أزمة أو حدث صادم بشدة، وتشجيع المشاريع النفسية وتقديم التسهيلات لها من قبل المكاتب الحكومية، وزيادة عدد المساحات الآمنة، وإسناد العمل فيها للمختصين النفسيين، وليس لمن ليس لهم أية علاقة بعلم النفس، وتوعية المواطنين أن السلوكيات العنيفة ليست “رجولة”، إنما قد تكون غطاء لمشكلة أكبر، وأن التحكم بالذات وضبط النفس والتصرف بهدوء وحكمة يعد من “الفضائل”، وضم العلاجات النفسية وتكاليف العلاج والإرشاد النفسي ضمن التأمين الصحي لكل موظف، ووضع قوانين تنظم عمل المختصين النفسيين، وأن خدماتهم النفسية هي من ضمن الخدمات الصحية.

وتشير دراسة أجراها مركز صنعاء للدراسات، في 2017، إلى أن النزاع الدائر أثّر بشدة على إمكانية الحصول على الرعاية الصحية في اليمن، نتيجة الأضرار التي لحقت بالمنشآت الصحية؛ ونقص الإمدادات العيادية، والوقود والكهرباء والسلع الأساسية؛ فضلاً عن مخاطر السلامة الجسدية لأخصائيي الرعاية الصحية.

وفي 23 فبراير 2017، صرح الدكتور نیفیو زاغاریا، الممثل بالإنابة عن منظمة الصحة العالمية في اليمن، بأن النظام الصحي اليمني في حالة انهيار، ما يترك 14.8 مليون شخص، أي أكثر من نصف السكان، بلا رعاية صحية أساسية.
وتوصل مسح أجرته منظمة الصحة العالمية، إلى أنه من بين 3,507 منشآت صحية، تبقى “الخدمات المتعلقة بالأمراض غير سارية، وظروف الصحة النفسية غير متوفرة إلا في 21% من المنشآت الصحية”.

كما أشار المسح إلى نقص في عدد الأطباء النفسيين في اليمن منذ بداية النزاع، ففي يناير 2016، أشارت منظمة الصحة العالمية إلى وجود 40 طبيباً نفسياً في اليمن، معظمهم في صنعاء، في حين أشار مدير برنامج الصحة النفسية في وزارة الصحة في ديسمبر 2016، إلى وجود 36 طبيباً فقط، بحسب الدراسة.

 

*المصدر:المشاهد نت

Exit mobile version