مانشيت

مسلسل «Anne with an E»: التفكير بذكاء داخل الصندوق

إنجي ابراهيم

دعنا ننسحب نحن في هدوء وادخل معي عزيزي القارئ إلى الصندوق المهجور، الذي ما عاد صناع الفن يلقون له بالاً وتجمهروا جميعاً خارجه يحاولون التنقيب عن قصص وحبكات جديدة وغير معتادة، دعنا نرتاح داخل الصندوق الخالي ونتحدث عن مسلسل أصر أن يفكر داخله ويخرج بعمل اتفق معظم من شاهدوه أنه عمل جميل، يستحق كل ساعة تقضيها في مشاهدته بمواسمه الثلاث، إنه مسلسل Anne with an E.

آن الجملونات الخضراء

هي رواية صدرت عام 1908 للكاتبة الكندية لوسي مود مونتجمري، تحكي قصة حياة فتاة يتيمة قضت طفولة بائسة بين الملجأ وبيوت الأسر المختلفة التي كانت تشغلها وهي بعد طفلة لم تبلغ الثالثة عشرة، ثم يرسلها الملجأ عن طريق الخطأ لأسرة مكونة من أخ وأخت متقدمين في السن كانوا يريدون تبني ولد ليساعدهم في أعمال مزرعة جرين جيبلز التي يملكونها، ويقرران في النهاية الاحتفاظ بآن كفرد من الأسرة وليس لتشغيلها، وتبدأ آن حياتها في البلدة الصغيرة الواقعة في جزيرة الملك إدوارد، وتسرد الرواية كيف تغير آن حياة الأخوين كاثبيرت وحياة كل من في البلدة.

في عام 2017 تقرر شبكة تلفزيون سي بي سي إنتاج مسلسل عن الرواية من كتابة مويرا وولي بيكيت التي حافظت على الهيكل الأساسي للرواية ولكنها أضافت المزيد من التفاصيل التي تجعل المسلسل أثرى من الناحية الإنسانية، وناقشت فيه قضايا أكثر من التي نوقشت في الرواية التي كتبت في مطلع القرن الماضي، أيضاً قللت من جرعة التراجيديا وأصبحت النهاية أكثر تفاؤلاً، وشارك مويرا في كتابة السيناريو سبعة كتاب شاركوا في كتابة سيناريو وحوار الحلقات.

 

المسلسل من بطولة آميبيث ماكولتي في دور آن شيرلي كاثبريت، وجيرالدين جيمس وروبرت هولمز تومبسون في أدوار ماريلا وماثيو كاثبيرت، وشارك في إخراج المسلسل بمواسمه الثلاث أحد عشر مخرجاً، بدأ المسلسل في 2017 وعرض على شبكة تلفزيون سي بي سي في كندا، ثم عرض عالمياً عبر منصة نتفلكس الترفيهية وانتهى إنتاج وعرض المسلسل في 2019 .

ما زال الصندوق مليئاً

رغم أن المسلسل مأخوذ عن رواية كلاسيكية كانت تعتبر في زمنها ضمن أدب الطفل، فإن المسلسل استطاع ببراعة تحويلها لعمل جاذب للمشاهدين البالغين، وباستخدام قصة عادية جداً لا تحمل أي مفاجآت حدثت منذ أكثر من مائتي عام عن يتيمة تعيش حياة بائسة ثم تستطيع أن تطور شخصيتها لتصبح ملهمة لبلدة بأكملها، استطاع المسلسل أن يناقش العديد من القضايا المعاصرة في إطار رقيق متوقع وهادئ دون أن يحرق أعصابك.

ما زال التنقيب داخل الصندوق بإمكانه أن يخرج بالكثير من الأفكار الأصيلة الجيدة والتي تصلح لكل يوم رغم إيقاع الحياة السريع والمتغير، الأمر يستلزم فقط بعض الذكاء، الكثير من الذكاء في الحقيقة، فتصنع مسلسلاً ذكياً جداً رغم أنك تستخدم شخصيات مسطحة في الغالب فتجعل كل أهل البلدة تقريباً طيبين وعطوفين ويتداركون أخطاءهم بسرعة، وتضع أبطالك في سلسلة من سوء الحظ كي تجعل الأحداث تتطور، تستخدم الصدف كثيراً في إيجاد حلول للمواقف المعقدة وكي تغير وجهات نظر الشخصيات، تستخدم السذاجة أفضل استغلال كي تحصل على عمل في منتهى الذكاء، تبحث جيداً داخل الصندوق الذي تخلى عنه الجميع وتوظف كل ما تركه الآخرون لصالحك.

 

لماذا أحببنا آن شيرلي كاثبيرت؟

هذا سؤال ساذج بالطبع، ولكننا هنا نقصد المسلسل ككل لا شخصية آن بالتحديد، فبغض النظر عن الصورة الجميلة والأماكن الواسعة الخضراء والبراح الذي تراه على الشاشة في كل مشهد، البساطة البالغة في منزل آن ومظهرها، والأزياء المتقنة جداً والاهتمام بكل تفاصيل العمل، كل هذا مع الأداء التمثيلي الرائع لكل الممثلين المشاركين في العمل وخاصة بطلته التي أتقنت دورها منذ أول لحظة لها على الشاشة وحتى آخر لحظة ببراعة وصدق شديدين، ورغم أن كل هذا يستحق بالطبع أن يستحوذ على اهتمام المشاهد، فإن المسلسل استطاع أيضاً أن يحقق معادلة صعبة فاستحق أن يحبه المشاهد.

المسلسل ناقش قضايا جدية جداً ومصيرية على خلفية كل ما سبق، فاستطاع أن يكسب عقلك تماماً عن طريق الاستحواذ على قلبك في البداية، آن الفتاة الثورية التي تؤمن بالحقوق النسوية وبالمساواة وتمكين المرأة  وبأحقيتها هي وكل صديقاتها في الحب غير المشروط، التي تدعم صديقها الذي اكتشف اختلاف ميوله الجنسية وتعذب باختلافه، وحقوق الأقليات والتمييز العنصري الذي ما زال يواجهه الإنسان المعاصر بغض النظر عن الزمن الذي تدور فيه الأحداث بل وحتى حرية الصحافة، المسلسل استطاع أن يناقش كل ذلك بانسيابية تامة، واستطاعت الكاتبة أن تطور الهيكل الأساسي للمسلسل لمناقشة كل تلك القضايا دون أن تشعر أنها مقحمة أو أنها لا تليق بالإطار الكلاسيكي الذي تدور فيه الأحداث.

المسلسل يستحق أن يهتم به المشاهد لأنه مسلسل ذكي دون تحذلق، يناقش قضاياه دون أن يجهدك، على العكس تماماً أنت تشعر بعد الحلقة وكأن هناك من قام بعمل مساج لخلايا مخك المجهدة من قسوة العالم، فرؤية المناظر الطبيعية الرائقة الطازجة التي تسميها آن بأسماء فاخرة مثل درب الفرح الأبيض أو بحيرة المياه المتلألئة يمنحك شعوراً تاماً بالسلام، أيضاً لم تكن نهايات الحلقات موترة ولم يستخدم المسلسل تقنية الـCliff hanger ليجبرك على المشاهدة، بل أنت بكامل إرادتك الحرة تلتهم الحلقة تلو الحلقة لأنك مستمتع بما يحدث أمامك على الشاشة ليس لأنك متوتر تريد أن تعرف ماذا سيحدث بعد ذلك، وهذه ميزة إضافية تحسب للمسلسل وتجعله يلعب في منطقة وحده بعيداً عن كل التوتر الذي يحيط بنا في الواقع ويطل علينا أيضاً عبر الشاشات.

 

*المصدر: موقع إضاءات

Exit mobile version