مانشيت

خزنة الحارثي السرية

مروان كامل

أبرز مفارقتين اثارهما الفنان والمفكر الموسيقي جابر علي أحمد عن الفنان الكبير محمد حمود الحارثي، ان اول لحن رسمي له بعد قيام ثورة ٢٦ سبتمبر حين استدعته قيادة الثورة وأمرت بإرساله الى صنعاء لتسجيل اغاني ثورية للأذاعة وتوظيفه ضمن الفرقة الموسيقية، كانت نشيداً ثورياً من مقام النهاوند كرد، والمثير لتساؤل جابر علي أحمد ان يلحن الحارثي نهاود كرد والأغاني التقليدية والتراثية اليمنية التي نشأ وتربى عليها وغرق فيها الحارثي لاحقاً إلى الأبد، يندر استخدامها لهذا المقام.

 

والمفارقة الثانية، ان “النغمات تخرج من حنجرته بشكل يختلف كثيراً عن اسلوب خروجها من حناجر الفنانين اليمنيين الآخرين” وان “في اداءه بإختصار: ملمحاً تركياً!”، وينفي الاستاذ جابر علي احمد بهذا ما ذهب إليه بعض الفنانين والباحثين الموسيقيين اليمنيين بعدم وجود اي تأثير للغناء التركي على الغناء اليمني.

 

اما المفارقة الأخرى والدهشة الخاصة بالنسبة لي عن الحارثي، فهي حين علمت بأن اغنية “قولوا لمن قد رافقوا شجوني” هي من كلمات الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول)، وبأن الفنان محمد حمود الحارثي قد لحّن وغنّى ثلاث قصائد للفضول، معقول!

 

الحارثي المعتق والغارق في التراث الصنعاني القديم ولا يمكن ان تتخيل له جو آخر غير هذا الجو، واللي ما تقدرش تتخيل انه كان شاب في يوم من الأيام، وتحس انه أثر خالد فعلوه هكذا مع دار الحجر، واللي ألحانه وإنتاجه الخاص من الأغاني ربما لا تتجاوز العشر الأغاني، قد غنّى ولحّن ثلاث قصائد للفضول الشاعر المجدد والمحدّث.. وبين قوسين (حق ايوب)!

 

الحارثي مش حتى الآنسي ولا السمه ولا السنيدار و و ..إلخ اصحاب التجديد والإنتاج الفني الخاص، واللي بعض منهم عاش فترة كبيرة في تعز، وعاد تأثير اللكنة التعزية واضحة وبارزة في بعض أغانيهم لليوم!

والشاعر الفضول تحديداً اللي غنى له الحارثي ثلاث قصائد عاطفية مش حتى شاعر صنعاني!

 

كيف لاما؟

 

وفعلاً كيف لاما، كيف لاما اختار الحارثي تلحين وغناء ثلاث قصائد للفضول بشكل خاص دوناً عن بقية الشعراء الموجودين في ساحة صنعاء، وكيف لاما الفضول كتب قصيدة “قولوا لمن رافقوا شجوني” المختلفة عن بيئة ولونه ولغة شعره كأنه قد كتبها للحارثي ولجو بيئته وغناءه بشكل خاص!

 

لا اعرف كيف لاما بالضبط، لكن اقرأ ما جاء في الأثر:

 

“جاء في الأثر مما ووصل إلى مالي رقيق الفؤاد وخُص به من علم وأخبار الموسيقى والغناء، ان الفنان محمد حمود الحارثي سألوه من افضل فنان عندك؟

قال أيوب طارش

قالوا له وعلى مستوى الوطن العربي؟

قال أيوب مابش احلى منه.

 

وقيل انه كان يقوم بتسجل الأغاني التي يرغب بسماعها لكبار الفنانين العرب عبدالوهاب وام كلثوم وغيرهم، ثم يرسلها لأيوب كي يغنيها له ويسمعها بصوته، وأيوب يغنيهن عود ويبعث له بتسجيلاتهن، وان الحارثي كان يحتفظ بهذه التسجيلات في خزنة حديد خاصة ويحذر الجميع من الاقتراب منها، واوصى بأن لا يتم نشرها بعد موته.

 

وكان مالي قبل علمه بهذه القصة، يردد ويحاجج دائماً بأن أيوب طارش عبسي هو أهم موسيقي يمني في القرن العشرين، وكان يقول ذلك بعيداً عن احكامه وآراءه الإنطباعية تجاه فنان بعينه ودرجة حبه لأغانيه، وكان ينكر على اي ناقد ومثقف موسيقي بصيرته وثقافته الموسيقية اذا كان لا يقر بشيء كهذا ولا يفهمه، وبعد ان علم بهذه القصة وبُهت الذي كفر، انتشى وكتب هذا المقالة كي لا تُعمى الأبصار ولا تُعمى القلوب عن أيوب طارش بعد الآن، ولأنه وجد اخيراً تفسيراً مناسباً حول “حبلي التوى بحبله ما احد قدر يحلّه” التي لا يمكن ان تخطر ببال عبقر نفسه ان يكون كاتبها الفضول اذا لم يخبره احد بذلك”.

 

لقد كان أيوب إذاً هو سر الأسرار، وهذه هي المفارقة الثالثة المدهشة عن الفنان محمد حمود الحارثي، وسواء كان ايوب هو من اقترح على الفضول كتابة قصائد للحارثي، ام اقترح على الحارثي ان يغني للفضول، ام الحارثي نفسه قد غنّى وقام بذلك بسبب اعجابه وحبه الشديد لغناء وأغاني أيوب طارش وتأثره به، فإن هذا كله قد جاء من ان “أيوب طارش” كان كل ما يحب ان يستمع له الحارثي من غناء في حياته.

Exit mobile version