ما بين الروايتين والرحلتين رواية ثالثة لا تفصح عنها الكاتبة ولكن تستقرأ من بين حروفها وكلماتها، وهي رسالة الكاتبة الأصلية إليف شافاق إلى كلّ قارئ وصلت إلى يديه الرواية.
تتلاعب إليف شافاق بزمن ومكان الرواية؛ فإذا هما تارة مبثوثان في عام 2008 بولاية ماساشوستس الأميركية حيث تعيش عائلة أميركية من 5 أفراد حياة الرتابة والاعتياد على المشاغل اليومية والمتاعب العائلية التي تصل إلى حدّ غض نظر الزوجة، إيلا روبنشتاين، عن الخيانات الجنسية لزوجها طبيب الأسنان المعروف والمرموق.
حصلت إيلا روبنشتاين على عمل كناقدة في وكالة أدبيّة وتكليفها بتحكيم رواية تدعى “الكفر الحلو” لكاتب اسمه عزيز زاهارا. وعبر “الكفر الحلو” ينبثق الزمن الثاني للرواية حيث تضعنا شافاق في القرن الثالث عشر ميلادي بين بغداد ودمشق وقونية حيث يلتقي رجل الدين الملتزم جلال الدين الرومي بالمتصوّف شمس الدين التبريزي وفي الحالتين والزمانين هناك ولوج إلى فضاء العشق والتله.
رواية تخفي أخرى
هي الرواية إذن صلب الرواية هي الكفر الحلو ضمن قواعد العشق الأربعون.
تتحرّك شخوص الأولى بهدي الثانية وتعيش شخصيات الثانية على خطى الأولى وعلى الرغم من التماهي حدّ التناهي تحافظ إليف شافاق على برزخ الفصل بينهما، فالروايتان شريكتان في الأنسنة مختلفتان في الأمكنة والأزمنة.
تبدأ التجربة الحقيقية من رسالة أبرقها الفقيه جلال الدين الرومي إلى عالم متصوّف يترأس تكيّة للمتصوّفين في بغداد، يفصح فيها عن توقه إلى العثور على رفيق درب يمنحه كينونة علمه.
تبدأ التجربة الحقيقية الأخرى عبر رسالة إلكترونية تبعثها إيلا روبنشتاين إلى الكاتب عزيز زاهارا تسأله فيها عن معنى التصوّف وجدوى الروحانيات في عالم السلعنة والتشيئة.
وفي الحالتين كانت الرسالة بمثابة لإشارات العرفانية -وفق المصطلح الصوفيّ- لدخول تجربة إنسانية مجرّدة قوامها العشق والفناء في المعشوق.
أحدث لقاء الفقيه ممثلا بجلال الدين الرومي بالدرويش شمس التبريزي نقطة تحوّل كبرى في حياة الرومي، لا فقط لأنّ في لقائهما كان لقاء العقل والروح واجتماع الوجدان بالبيان، وإنّما أيضا لأنّ اللقاء كان قادحا لفيضان العرفان والعشق ونقطة تملّك الرومي لمسالك الحبّ الذي سرعان ما تجسّد في دواوين شعرية لا تزال تفيض رقيا، ورقصات وسماع صوفي لا يزال إلى يومنا هذا يوفّر لبنات التحلّي والتخلّي والتجلّي لكلّ مريد.
كان لقاء الرومي بالتبريزي لقاء التمفصل الجوهريّ في الرواية وفي الحقيقة التاريخيّة على حدّ السواء، فسليل الفقهاء الذي كان لصيق النصّ ومتلازما مع حدود الحرف بات منبعا للتناصّ ونهرا جارفا لمعاني الخلاص الإنساني.
من فقيه بلا شمس إلى شمس الفقهاء
كان الرومي قبل لقاء “شمس” فقيها بلا شمس النورانية نصف سعيد بعلمه نصف تعيس برتابة الوضع. يخطب في الناس مناديا بإكرام الفقراء والعطف على البؤساء دون أن يجالس يوما فقيرا أو يمضي مع بائس ليلة بمعدة فارغة. كان الرومي سعيدا بالتنظير والخطاب وجزالة المبنى جدّ فقير بمنطق التجربة ومعايشة الأحوال وحقيقة المعنى.
وعلى عكس الـرومي كـان شمـس التبريزي طوّافا بين “عيال الله” يجبـر خواطر “الزانية” التائبة وينقذها من بطش عسس السلطان الذين يحرصون على الأخلاق الدينية صباحا ويسبّون العاهرات مساء ويبيتون في أحضانهنّ ليلا، حيث تكون رائحتهم بـ“رائحة الجـوع والمعصية ودمـاء الأبرياء”.
رحّالة هو التبريزي بين أحوال العامّة والناس يرى فيهم قبس الخير ونور الله الذي وضعه في خلقه، فأصدقاؤه من مرتادي خمارة قونية ورفاقه من كافة الأديان، وأحبابه أجيال من البؤساء والتعساء وقليلي الحظّ في الدنيا كثيري الحظّ فيما أعرض عنه غالبية البشر.
لذا كان من الضروري التقاء النصّ بالروح، والفقه بالتجريب، والحدود بالوجدان، والإنسان بالمكان، والأنسنة باللازمان.
وكما كان اللقاء قطب رحى رواية الكفر الحلو فإنّ لقاء إيلا روبنشتاين بعزيز زاهارا في الولايات المتحدة الأميركية كان مفصليّا في الرواية.
رواية “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة والروائية إليف شافاق، والتي بدأ صدورها في العام 2009، تتخذ أهميتها من أكثر من سبب. هي أولا رواية معاصرة تستدعي أخرى تراثية، وهي أيضا تتعمد إحداث تداخل في الأزمان: الزمن الراهن والقرن الثالث عشر ميلادي، وتداخل الأزمان أنتج تداخلا في الشخصيات والسرد والحكايات. في الرواية يحضر جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، وتحضر إيلا روبنشتاين، والمدار الموحد هو الحب والتصوف والأديان. هي الرحلة، بما هي حلّ وترحال وسفر وتجوال بين أحوال المتصوّفة. وبما هي بحث دائم ومستمرّ عن أسئلة العشق وكينونة الصفاء. هي الرحلة مشكّلة للخيط الناظم لكتاب “قواعد العشق الأربعون” لصاحبته المؤلفة التركية إليف شافاق. أن تحتوي الرواية على قصّة واحدة، فتلك هي جوهر الرواية، وأن تحتوي على عدّة قصص متداخلة في المحتوى ومتشابكة في الشكل ومتقاطعة في المضمون والمقصد ومتباعدة في الفضاءين الزماني والمكانيّ، فذلك إبداع تتحوّل الرواية بمقتضاه من وظيفة سردية الأحداث إلى استحقاق خوض التجارب الإنسانية. في “قواعد العشق الأربعون”، تمتزج التجارب الإنسانية بين مسارين زمنيين مختلفين ومكانين متباعدتين، وتتداخل الضمائر المتكلمة والشخصيات المتجاذبة لتنحت خطوطا كبرى للتجربة الإنسانية صلب عوالم التصوّف والعشق الأبديّ لله. كلّ ما في رواية “قواعد العشق الأربعون” يتحدّث تصوّفا وصفاء انطلاقا من الإشارات الربانية إلى التخلّي والتحلّي إلى التقاطع بين عالم الحسّ وعالم المطلق ومنه إلى تجربة البحث عن الذات وصولا إلى العشق والفناء.
رجع صدى التبريزي
لم يكن زاهارا سوى رجع صدى لشمس الدين التبريزي في القرن الحادي والعشرين، فالشاب الهولندي الذي أسلم ومن ثمة تصوّف وخاض تجارب العرفان والوجدان بين تكيّات المغرب الأقصى، استحال طيفا للتبريزي في حلّه وترحاله وفي كثرة سفره وفي توقه الشديد إلى نشر الحكمة.
وهكذا أيضا باتت إيلا ما بعد اللقاء بزاهارا مختلفة عن إيلا ما قبل اللقاء، فالمرأة التي كانت ترفض تجربة عشق ابنتها الكبرى من شاب غير يهوديّ وترى في الحبّ لهوا وعبثا صبيانيا أطلقت العنان لرحلة إنسانية قوامها الحبّ والعشق حتّى وإن كانت الفاتورة في المقابل استهتارا من الطبقة البرجوازية التي كانت تعيش في ظلها وتخوينا من عائلة زوجها وتضحية بواقع رتيب تسوده الخيانة الزوجية ويحكمه عقد صامت بين الزوجين.. استمرأ النفاق الاجتماعي وتطبّع مع الانخرام الأخلاقي.
وبشكل من الأشكال باتت إيلا تفيض بقواعد العشق وتسردها على مسمع الجميع وتصدع بها أمام الرأي العام حتّى يدرك الأخير حقيقة الحبّ ويستدرك مزالق الارتداد الحضاري والمعرفي والجماليّ.
ولأن الدرويش في النهاية والمحصلة هو عبارة عن مقاصدية الرسالة ومقصدية المهمّة فإنه يختفي بمجرّد إتمام مسؤوليته في نفخ روح الحب في الأفئدة الميتة والمجتمعات المحتضرة.
يغادر التبريزي رفيقه الرومي بعد أن بات الأخير شاعرا صوفيا وصوفيا حكيما… وبعد أن ملأ قونية حبّا صافيا في القلوب النقية وبعد أن حمل عليه مخالفوه إلى حدّ المكيدة له لاغتياله.
غادر التبريزي بعد أن عمد أعداؤه إلى اغتياله جماعيا أمام مدخل بيت الرومي، وكان من بين المشاركين في عملية القتل ابن الرومي الصغير الذي ادعى أنّ شمس سرق أباه منه ولم يدرك أنّ شمس وهب الرومي لكافة البشريّة وأخرجه من ضيق البيت والعائلة إلى شساعة عوالم الأنسنة ورحابة رسالة العشق.
استمرّ الرومي بعد وفاة شمس التبريزي على ذات الهوى والخطى والهدى عاكفا في خلوته النفسية لدواوين شعر الحبّ والعشق، ومستمرا في رقصة الصفا مع مريديه من الدراويش وتلامذته على طريق العشق والتجليّ… إلى أن أسس مدرسة في التله وفي النقاء والارتقاء باتت بها مدينة قونية قبلة للعاشقين ومحجّة للمتصوّفة من العالم أجمع.
وكما غادر التبريزي المشهد بعد اكتمال المهمّة انسحب عزيز من مشهدية حياة إيلا بعد أن فقد الحياة بسبب مرض سرطان الجلد… وعلى الرغم من تأكيد الأطباء له بأنّ حياته لن تطول إلا أشهرا قليلة فقد فضّل أن يفردها لنشر المحبّة بين الناس وتعليم قواعد العشق لكافة المريدين.
انسحب عزيز من مشهدية إيلا عقب أن تحوّلت الأخيرة مؤمنة بجدوى العشق وقيمة التله والتوحد في تغيير الطبائع وتحوير التصورات وإبداع أفق أمل للناس جميعا.
القاعدة الأربعون
أغلقت إيلا القاعدة الأربعين من قواعد العشق بعد أن أكملت مراسم دفن عزيز مؤكدّة أنّه “لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي.. فالانقسامات لا تـؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامـات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو نقي وبسيط. العشق ماء الحياة، والعشيق هو روح من نار! يصبح الكون مختلفا عندما تعشق النار الماء”.
ومع القاعدة الأخيرة يلتقي عزيز بالتبريزي بالرومي وذلك بعد أن يدفن عزيز قرب التبريزي في قونية ليحضر جنازته الإنسان… بمعزل عن الأديان والمكان والزمان.
وعلى غرار جنازة التبريزي والرومي التي غص بهما الفقير قبل الغني والشقيّ قبل التقيّ تداعى الناس من مختلف الجنسيات والألوان لحضور جنازة عزيز.
هكذا تكون نهاية الرواية التقاء الشخوص والأزمنة في قونية وهكذا أيضا تكون خاتمة الرواية تذكيرا بمآل الإنسان وبقيمة مآثره ومناقبه في زرع العشق والمحبة بين النّاس… وتلك هي الرسالة الخالصة والدائمة.
نعم، فعل التبريزي بالرومي فعل المطر في الأرض القاحلة حيث أينعت وأثمرت بعد طول قحط. وفعل عزيز في إيلا فعل الفجر في الليل حيث يعمّ النور الديجور. وبين الروايتين والشخصيتين رحلة إنسانية وتجربة في استكناه الحبّ والإيثار والعشق والتصوّف الأثيل والأصيل.
الرواية الثالثة
ما بين الروايتين والرحلتين رواية ثالثة لا تفصح عنها الكاتبة ولكن تستقرأ من بين حروفها وكلماتها، وهي رسالة الكاتبة الأصلية إليف شافاق إلى كلّ قارئ وصلت إلى يديه الرواية.
في القاصة التركيّة شافاق أشياء من شمس التبريزي من حيث الترحال والتجوال والبحث عن المحبّة والإيمان بالمطلق والإنسانية المشتركة. وفيها أيضا من دعوات التبريزي مطالبات حضارية لتجاوز مشاكل العصر وحروب الطوائف واحتراب ممثلي الأديان باسم الأديان.
تؤكّد الكاتبة أنّ عصر الرومي والتبريزي شبيه كثيرا بعصرنا الحالي، إذ أنّ القتال والاقتتال باسم الدين ونصرة له صار منسحبا على كلّ الصراعات السياسية وزُجَّ بالأديان في حروب الهويات المتناحرة والإثنيات القاتلة والمقتولة. وهي بهذا تمثّل صدى للتبريزي واستحضارا لمقولاته في التسامح والمحبة وقبول الآخر ودفعا نحو تقبّل إنساني سواء في مستواه الفردي أو الجماعي لتقبّل هذه الرسالة ونشرها في فضاء المكان والزمان.
ليس بالضرورة أن يكون المتقبّل فردا على شاكلة الرومي البكر من حيث افتقاد المعنى وليس بالضرورة أن يحظى كل واحد منّا بمكان ومكانة الرومي حتّى يستفيد من التبريزي، ذلك أنّه طالما أنّ بحثا نحو السلم والمحبة والهدوء والعشق يستثير فينا أسئلة الوجود والتغاير والتثاقف ففي كل واحد منّا يسكن الرومي وفي كل واحد منا أيضا يعيش التبريزي.
قد يكون الرومي المقصود من الرواية العالم الافتراضي والرمزي الذي يعبق بخطاب الكراهية والبغض وينشر مقولات التشويه والازدراء فيكون جزءا من ترياقه كتاب قواعد العشق الأربعون. في مفصل من فصول الرواية وفي خضم بحث إيلا عن أجوبة للأسئلة المتلاطمة كأمواج البحر والتي أثارتها رواية الكفر الحلو تسأل إيلا عزيزا في رسالة إلكترونية مكثفة المعنى والمبنى عزيز؛ هل أنت التبريزي؟
ومن حقنا نحن أيضا في خضم تفكيرنا عن مقصدية الكتاب ومقاصدية الرسالة وسموّ المهمّة… أن نسأل إليف شافاق، هل أنت تبريزي القرن الحادي والعشرين؟
إليف شافاق مغرمة برواية الهامش أو بعبارة أدقّ أدب الأقليات والمعدمين والخيط الناظم لرواياتها انطلاقا من رواية الشر في عيون الأناضول 1994، مرورا بـالصوفي في 1997، وليس انتهاء بلقيطة إسطنبول في 2006 هي الهامش وليس المركز وسعيها المضني نحو مركزة الهامش وتحويله إلى محور الرواية وجوهر الأحداث.
هناك شيء من التبريزي في شافاق والعكس صحيح أيضا وإلى حين الإجابة عن هذا التساؤل فإنّ رواية “قواعد العشق الأربعون” هي واحدة من أفضل ما كتب في الأدب الصوفي وفي الرواية الخاصة بأحوال المتصوّفة، والأكثر من ذلك أنّها أكثر من رواية هي تجربة حياة سابقة وتجربة حياة جماعية وإنسانية مشتركة لاحقة.